يطرح استيعاب الواقع المتغيّر والسياقات المتجدّدة إشكالية لمصدري الفتاوى الشرعية في هذا العصر. فمنهم من يتجاهل الواقع بالكلية، ومنهم من لا يمتلك أدوات فهم الواقع، ومنهم من يحاول فرض فهمه للواقع على النصوص الشرعية دون إدراك لضوابط ومحددات التعامل معها. إن الواقع هو نهر الحياة المنساب الذي لا بد للفتوى أن تتعامل معه، متلونة بلونه، باحثة عن منبعه، متأملة في مصبه ومنتهاه. إن الواقع إذاً شريك في الأحكام الشرعية، وفهمه هو الوسيلة لتنزيلها على الوقائع. 
لكن فهم الواقع ليست مهمة سهلة، خصوصاً في عالم معولم يزداد تعقيداً كل يوم، ويقترح فيه التطور الزماني والواقع الإنساني صوراً مغايرة للصور التي نزلت فيها الأحكام الجزئية. فهو واقع فيه معاهدات دولية، وحدود جيوسياسية بين الدول، وأسلحة دمار شامل، وتعددية دينية وثقافية وإثنية، ومخترعات وذكاء اصطناعي. إنه واقع يؤثّر في النظم والقوانين، ويستدعي قراءة جديدة في ضوء الشرع للتذكير بالكُليات، تحت تأثير (كُلي) الزمان أو العصر أو الواقع سياسياً واجتماعياً، واقتصادياً وعلمياً وتكنولوجيا.
وقد زادت الحداثة بأَشكالها، والمعاصرة بإِشكالاتها، من تعقيد فهم الواقع، كما أشار إلى ذلك كثير من علماء الاجتماع والفلاسفة مثل ادغار موران في نظريته التي تدعو إلى أنماط جديدة من «التفكير المعقد» تبتعد عن الاختزال أو التبسيط. فالواقع بتركيبه المربِك لا يُحاط به من منظور أحادي ولا يكفي علمٌ مهما كانت دقّته وصوابية نتائجه لينفذ إلى حقيقته، بل لا بد أن تتضافر وجهات النّظر المعرفية وتتكامل لترسم لوحة أقرب إلى الدقة وإلى الاكتمال. يفرض هذا التعقيد على الفقيه المفتي البحث عن أدوات تساعده وتساعفه في تصوّر وتصوير الواقع. 
في هذا السياق، يأتي المؤتمر العلمي الثالث لمجلس الإمارات للإفتاء الشرعي -المزمع عقده قريباً إن شاء الله- تحت الرعاية الكريمة لسمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الخارجية، لينبّه العلماء على فقه الواقع، حيث يجمع مؤسّسات ودور الفتوى الرسمية في العالم الإسلامي، والمختصين في مجالات الفلسفة وعلم الاجتماع والعلوم الطبيعية لتسليط الضوء على ضرورة اعتبار الواقع عند إصدار الفتاوى الشرعية. كما يهدف المؤتمر إلى إعادة التفكير في طرق ومناهج استنباط الواقع وقواعد تنزيل الأحكام الشرعية عليه، أو ما يسمى في اللغة المختصة بتنزيل (خطاب التكليف) على (خطاب الوضع). إن هذا المؤتمر يسعى لتحسين جودة الفتاوى عن طريق معالجة القصور الحاصل في ثلاث نواحٍ بالتحديد:
1- القصور في إدراك الواقع 
2- القصور في فهم تأثير (كُلي الواقع) في الأحكام الشرعية في الجملة 
3- القصور في التعامل مع منهجية استنباط الأحكام بناء على العلاقة بين النصوص والمقاصد وبين الواقع.

وهكذا فهذا المؤتمر يعالج وضعاً وموضوعاً. فقد نتج عن إهمال فقه الواقع، وعدم الالتزام بمنهجية منضبطة، ظاهريةٌ في التفسير، وجهلٌ بالحِكَم والتعليل، وتجاهلٌ للواقع عند التنزيل، فنشأت فتاوى تتضمن فروعاً بلا قواعد وجزئيات بلا مقاصد، تجانب المصالح وتجلب المفاسد، مما أوجد حالة من الفوضى الفكرية، تتفلت فيها الفتوى من الوسط وتنجذب إلى الإفراط أو التفريط، بل قد تتحول أحياناً إلى تطرف وحروب تسفك فيها الدماء المعصومة وتستباح الحرمات المصونة.
إن انعقاد هذا المؤتمر في دولة الإمارات العربية المتحدة يجسد مواصلة لدورها الريادي كمنارة للاجتهاد الحضاري والفتوى المؤصلة المعتدلة والتميز في مختلف المجالات العلمية في ظل القيادة الرشيدة. كما يأتي ضمن مساعي مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي للإسهام في البحث العلمي الرصين وإمداد المفتين بما يعينهم على النهوض بمهمة الإفتاء الجليلة، واستكمالاً لمؤتمرات المجلس العلمية السابقة «مؤتمر فقه الطوارئ» (2021) بالتعاون مع رابطة العالم الإسلامي، والذي تناول نوازل جائحة كورونا، وما يتعلق بها من إشكالات شرعية، و«مؤتمر الاستيعاب الشرعي للمستجدات العلمية» (2023) والذي تناول القضايا الفقهية المتعلقة بمجالات كالطاقة المتجددة، والجينوم البشري، وأداء العبادات في المركبات الفضائية، واللحوم المستنبتة، والمتاجرة بالبيانات الضخمة، وغيرها. 
والله ولي التوفيق والهادي بفضله إلى سواء الطريق.

معالي العلامة عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه*
*رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي.